خمسون ظلًّا ومرآةٌ واحدة | شعر

 

(1)

لي عينٌ

كلّما رأتني أفترش الظلّ، ظلّي

انتبهتُ أنّ لي عينًا لا ترى.

ولي أذنٌ

لا تسمع غير ارتطام الدم بالعشب

لتنبّه الأخرى...

 

لا براءةَ لدمٍ مِنْ دمٍ

ولي اسمٌ كلّما ردّده الآخرون

تذكّرتُ أنّ اسمًا

كان لأمّي

آخرَ لأبي

وثالثًا لي

ورابعًا للآخرين

الله وحده مَنْ يعلم

أيًّا منهم أنا.

 

(2)

كلّ شيءٍ مهيّأٌ للسقوط

الدرج،

الحائط،

الجسد،

الحلُم،

النادل وأنا

الدرج المتّكئ على الحائط

الحائط الّذي رُفِعَ جدارًا

الجدار العازل بين الجسد وروحه

الجسد الخارج مِنَ الحلُم

الحلُم، وظلّي يقرعان الكأس

كنّا هنا،

ممثّل الادّعاء وأنا.

 

(3)

العشريّات...

تلويحة وداعٍ أنا، يقول الأطبّاء

لديّ خمسون عامًا وبعض ذكرياتٍ وكثيرٌ مِنَ الأوجاع

 

أحمل على ظهر قلبي

عديد الخيبات الّتي أنجبتْها الأيّام مِنْ صُلْبِ الحياة

لديّ خمسون ظلًّا

ومرآةٌ واحدةٌ شوّش رؤيتَها موت الأحياء.

 

في العشريّة الأولى

كنتُ بريئًا، براءة الصحراء مِنْ تيه الأنبياء.

 

في الثانية،

لم يتبعني ظلّي ففتحتُ رزنامة الوقت وأخطأتُ في العدّ.

 

في الثالثة،

ادّعيتُ أنّهم صلبوني كمسيحٍ شُبِّه لهم للتوّ

 

أمّا الرابعة،

فعثروا عليّ متمسّكًا بمهدٍ

احتواني طفلًا بات شابًّا لم يَعُدْ يعلم كيف بدوتُ

 

في الخامسة،

حملتُ التابوت وشرعتُ في تشييع نفسي بنفسي

قائلًا: الآن، الآن صحوتُ.

 

(4)

لم يكن سهلًا

أن نحصي هزائم الوقت

أن نُثْبِتَ

كم يبعد السهل

عن الجبل

أن نُخْرِجَ

عقرب الوقت مِنَ اليوم.

 

لم يكن صعبًا

أن نرشّ القبور

بسمّ الكأس

وندّعي أنّنا رتقنا جيوب الأكفان.

 

لم يكن قولًا

أن نرتّل تعويذة يوسفَ لأبينا

ولا نهبط مِنَ الملأ الأعلى

لنعتقه، ويعتقنا

مِنْ دورة الميلاد والموت

 

لم يكن كذبًا

أنّا تسلّلنا

مِنْ عنق الحلُم

فعاقبتنا الحياة بشحّ النوم.

 

لم يكن وطنًا

ذاك الّذي قدنا شراعه

في الوهم.

 

(5)

أتذكّر حين متُّ،

متُّ واقفًا

رغم أنّي رأيتُني

في نشرات الأخبار ممدّدًا.

 

أتذكّر أبي

كان جالسًا فوق رأسي

يتأمّلني وجهًا لوجهٍ

ويحدّق في ماء العين

ناسيًا أنّه مات قبلي.

 

أتذكّر أمّي

ووجهها الشاحب

لحظة القصف

لحظة القطف

لحظة الاعتراف:

أنّي تكشّفتُ ليلًا ولم أمُتْ.

 

(6)

تَرَفُ الوقت...

جارحٌ هو الوقتُ وإن تداعتْ كلّ عقارب المعنى

أو حرّرتنا الذاكرة مِنْ تدوين يومٍ جديدٍ

يومٍ لم يَكُنْ هادئًا، ولم أكُ مطمئنًّا، أُصِبْتُ فيه بالعياء حين قلتُ:

لا أذكر متى كان الزمن عنوانًا، وساعي البريد غائبًا

ومتى نسيتُ نفسي، فبتُّ بلا ذاكرة.

 

حين جلستُ إليّ، عبثًا أعدتُ هندسة الأشياء

البيوت المترفة، الأرصفة الباردة، وغواية العشق.

فهل نجحتُ؟ سؤالٌ يفتح شهيّة القول ويغلق باب التأويل

فالبيوت لا يعنيها الزمن، ولم تَخْلُ مِنْ عسس التفتيش

والأرصفة منحازةٌ للحياة، لا شأن لها بالموت

البرودة فيها تشبه السخونة، حركةٌ في الحدس وأخرى للتأمّل

وأمّا العشق فمسٌّ مِنْ جنونٍ لا يبرح الذاكرة ولا يعترف بتَرَفِ الوقت.

 

(7)

مخرج...

يُقال الشيء بالشيء يُذْكَر

وأنا في فوضى أشيائي لا أعرفني

أهي الحياة الّتي نرصدها للموت

أم هي الروح

جغرافيا اكتئابٍ، ومحض خيمةٍ بلا أوتاد؟

 


 

أحمد زكارنة

 

 

كاتب وإعلاميّ فلسطينيّ، يعمل مذيعًا في «الهيئة العامّة للإذاعة والتلفزيون الفلسطينيّة»، صدرت له مجموعة شعريّة بعنوان «ما لم أكنه» بالإضافة إلى كتاب «وعي الهزيمة». يكتب المقالة في الشأنين الأدبيّ والسياسيّ في عدد من المنابر العربيّة.